کد مطلب:280406 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:263
اصول الدعوة
تجری دعوة المسیح علیه السلام فی اتجاهین یصبان فی هدف واحد، الاتجاه الأول: دعوة بنی إسرائیل وتصحیح عقائدهم واتجاهاتهم وسوقهم إلی صراط الله العزیز الحمید، وهذا الاتجاه ینطلق من التوراة التی أنزلها الله علی موسی علیه السلام، والاتجاه الثانی: هو التبشیر بنبی الإسلام خاتم الأنبیاء والمرسلین، وهذا الاتجاه ینطلق من بشارات الأنبیاء السابقین، ویبشر به المسیح علیه السلام وفقا لسنة الإخبار بالغیب عن الله، وهی سنة جاریة. فكل نبی یخبر بالذی یلیه، ویمكن القول بأن دعوة المسیح علیه السلام دعوة تربط بین الدعوة الإلهیة التی حملها بنو إسرائیل. وبین الدعوة الإلهیة التی یبعث بها النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم، والدعوة الإلهیة منذ ذرأ الله ذریة آدم هی دعوة واحدة. ولا تدعو النبوة إلا إلی دین واحد وهو التوحید، وعلی هذا فإذا كذب الناس أحد الأنبیاء فقد كذبوا كل الأنبیاء فی الحقیقة.
وأصول دعوة المسیح علیه السلام فی قوله تعالی: (وإذ قال عیسی بن مریم یا بنی إسرائیل إنی رسول الله إلیكم مصدقا لما بین یدی
[ صفحه 130]
من التوراة ومبشرا برسول یأتی من بعدی اسمه أحمد). [1] .
فالذی حكاه تعالی عن عیسی علیه السلام ملخص دعوته، وقد أعلن أصل دعوته بقوله أنی رسول الله إلیكم فأشار إلی أنه لا شأن له إنه حامل رسالة من الله إلیهم، ثم بین متن ما أرسل إلیهم لأجل تبلیغه فی رسالته بقوله مصدقا لما بین یدی من التوراة ومبشرا برسول الخ.
فقوله مصدقا لما بین یدی من التوراة بیان أن دعوته لا تغایر دین التوراة. ولا تناقض شریعتها بل تصدقها ولم تنسخ من أحكامها إلا یسیرا، والنسخ بیان انتهاء أمد الحكم ولیس بإبطال. ولذا جمع علیه السلام بین تصدیق التوراة ونسخ بعض أحكامها فیما حكاه الله تعالی من قوله (مصدقا لما بین یدی من التوراة ولأحل لكم بعض الذی حرم علیكم)، [2] ولم یبین لهم إلا بعض ما یختلفون فیه، كما فی قوله (قد جئتكم بالحكمة ولأبین لكم بعض الذی تختلفون فیه فاتقوا الله وأطیعون). [3] .
وبالجملة: فالمسیح یحمل رسالة من الله إلی بنی إسرائیل، وهذه الرسالة لا تناقض التوراة التی أنزلها الله تعالی علی موسی علیه السلام، بل هو مصدقا لما علمه الله من التوراة النازلة علی موسی، وأنه علیه السلام جاء لنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة علیهم، كما فی قوله تعالی: (ولأحل لكم بعض الذی حرم علیكم). [4] وما حرم علیهم أشار إلیه قوله تعالی: (فبظلم من الذین هادوا حرمنا علیهم طیبات أحلت لهم). [5] .
[ صفحه 131]
والأناجیل الحاضرة أشارت إلی أن دعوة المسیح موجهة إلی بنی إسرائیل دون غیرهم. جاء فی إنجیل متی قول المسیح لم أرسل إلا إلی خراف بیت إسرائیل الضالة [6] وأشارت إلی أن الدعوة لا تغایر دین التوراة ولا تناقض شریعتها بل تصدقها. وإنها تنسخ بعض الأحكام التی انتهی أمد حكمها. جاء فی إنجیل متی قول المسیح لا تظنوا أنی جئت لألغی الشریعة أو الأنبیاء. ما جنت لألغی بل لأكمل [7] ویقول متی هنری فی تفسیره: إن المسیح فی كل النواحی خضع للناموس وأكمله.
أكرم والدیه وقدس السبت وصلی وأعطی صدقه. وأطاع طاعة كاملة. [8] .
وكان المسیح علیه السلام یحمل المعجزات التی تؤید صدق دعوته. ومنها النفخ فی الطین فیكون طیرا بإذن الله. وإبراء الأكمه والأبرص وإحیاء الموتی بإذن الله. وینبأهم بما یأكلون وما یدخرون فی بیوتهم. وكان علیه السلام یحمل معجزة العلم بالكتاب والحكمة. وهو قوله تعالی: (ویعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجیل) [9] وما جاء به المسیح علیه السلام. أصاب علماء بنی إسرائیل بالدهشة. وعلی الرغم من هذا حاولوا قتله. جاء فی إنجیل یوحنا صعد یسوع إلی الهیكل وبدأ یعلم الناس. فدهش الیهود وتساءلوا: كیف یعرف هذا الكتاب وهو لم یتعلم. فأجابهم یسوع: لیس تعلیمی من عندی بل من عند الذی أرسلنی. ومن أراد أن یعمل بمشیئة الله یعرف ما إذا كان تعلیمی من عند الله أو أننی أتكلم من عندی. من یتكلم من عنده یطلب المجد لنفسه.
أما الذی یطلب المجد لمن أرسله فهو صادق لا إثم فیه. أما أعطاكم
[ صفحه 132]
موسی الشریعة ولكن ما أحد منكم یعمل بالشریعة. لماذا تسعون إلی قتلی؟. [10] وجاء فی إنجیل متی بهت الجمیع من تعالیمه لأنه یعلمهم كمن له سلطان. [11] .
كان هذا هو الشطر الأول من دعوته علیه السلام، أما الشطر الثانی فهو قوله ومبشرا برسول یأتی من بعدی اسمه أحمد ومن المعلوم أن البشری هی الخبر الذی یسر المبشر ویفرحه. ولا یكون إلا بشئ من الخیر یوافیه ویعود إلیه، والخیر المترقب من بعثة النبی أحمد ودعوته. هو انفتاح باب من الرحمة الإلهیة علی الناس فیه سعادة دنیاهم وعقباهم، من عقیدة حقة أو عمل صالح أو كلیهما.
وقال صاحب المیزان: ویعود معنی كلامه إنی رسول الله إلیكم مصدقا لما بین یدی من التوراة ومبشرا.. الآیة. إلی: أنی رسول الله إلیكم أدعو إلی شریعة التوراة ومنهاجها - ولأحل لكم بعض الذی حرم علیكم - وهی شریعة سیكملها الله ببعث نبی یأتی من بعدی اسمه أحمد، وهو كذلك. فإمعان التأمل فی المعارف الإلهیة التی یدعو إلیها الإسلام، یعطی أنها أدق مما فی غیره من الشرائع السماویة السابقة، وخاصة ما یندب إلیه من التوحید. الذی هو أصل الأصول الذی یبتنی علیه كل حكم ویعود إلیه كل من المعارف الحقیقیة، وكذا الشرائع والقوانین العملیة التی لم تدع شیئا مما دق وجل من أعمال الإنسان الفردیة والاجتماعیة. إلا عدلته وحدت حدوده وقررته علی أساس التوحید ووجهته إلی غرض السعادة، وإلی ذلك الإشارة بقوله تعالی: (الذین یتبعون النبی الأمی الذی یجدونه مكتوبا عندهم فی التوراة والإنجیل یأمرهم بالمعروف وینهاهم عن المنكر ویحل لهم الطیبات
[ صفحه 133]
ویحرم الخبائث ویضع عنهم إصرهم والأغلال التی كانت علیهم). [12] .
وقوله اسمه أحمد دلالة السیاق علی تعبیر عیسی علیه السلام عنه صلی الله علیه وآله وسلم بأحمد، وعلی كونه اسما له یعرف به عند الناس، كما كان یسمی بمحمد ظاهرة لا سترة علیها، ویدل علیه قوله حسان:
صلی الإله ومن یحفف بعرشه
والطیبون علی المبارك أحمد
ومن أشعار أبی طالب قوله:
وقولوا لأحمد أنت أمرء
خلوف اللسان ضعیف السبب
ألا إن أحمد قد جاءهم
بحق ولم یأتهم بالكذب
وقوله مخاطبا للعباس وحمزة وجعفر وعلی بنصر النبی صلی الله علیه وآله وسلم:
كونوا فدی لكم أمی وما ولدت
فی نصر أحمد دون الناس أتراسا
ومن شعره فیه صلی الله علیه وآله وسلم وقد سماه باسمه الآخر محمد:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا
نبیا كموسی خط فی أول الكتب
ویستفاد من البیت أنهم عثروا علی وجود البشارة به صلی الله علیه وآله وسلم. فی الكتب السماویة التی كانت عند أهل الكتاب یومئذ ذاك، ویؤیده أیضا إیمان جماعة من أهل الكتاب من الیهود والنصاری وفیهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام وغیره، وقد كانوا یسمعون هذه الآیات القرآنیة التی تذكر البشارة به صلی الله علیه وآله وسلم،
[ صفحه 134]
وذكره فی التوراة والإنجیل. فتلقوه بالقبول ولم یكذبوه. ولا أظهروا فیه شیئا من الشك والتردید [13] وخلو الأناجیل الدائرة الیوم من بشارات عیسی علیه السلام بما فیها من الصراحة. فالقرآن الكریم فی غنی عن تصدیقها. لأنه الكتاب الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه.
وهو المعجزة الباقیة، والبشارات بنبی الإسلام (ص) لا یخلو الكتاب المقدس منها، وبعض هذه البشارات حرفت وغیرت إما بتغییر لفظ أو محل. وإما بزیادة أو نقصان. أو غیر ذلك.
ولقد ذكر العهد القدیم بشارات إذا تدبرها الباحث وجد أنها لا تستقیم إلا مع البعثة الخاتمة، وسنلقی ضوءا علی هذه البشارات فی موضعها، أما العهد الجدید فلقد بشر بالنبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم فی مواضع، وبشر بشریعته تحت عنوان اقترب ملكوت السماوات، وكان المسیح علیه السلام یقول لتلامیذه أكرزوا قائلین: إنه اقترب ملكوت السماوات، [14] ومعنی الملكوت الذی أشار إلیه المسیح:
السلطنة والحكم، ویشیر إلیه قول الله تعالی لرسوله الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم (قل من بیده ملكوت كل شئ وهو یجیر ولا یجار علیه إن كنتم تعلمون. سیقولون لله. قل فأنی تسحرون. بل أتیناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم علی بعض سبحان الله عما یصفون)، [15] وقال المفسرون: الملكوت هو الملك. بمعنی: السلطنة والحكم، وقد فسر تعالی ملكوته بقوله: (إنما أمره إذا أراد شیئا أن یقول له كن فیكون. فسبحانه الذی بیده ملكوت كل شئ)، [16] فكون ملكوت كل شئ بیده
[ صفحه 135]
أن ملكه تعالی محیط بكل شئ ونفوذ أمره ومضی حكمه ثابت علی كل شئ، والنظر فی ملكوت الأشیاء یهدی الإنسان إلی التوحید هدایة قطعیة، قال تعالی: (أولم ینظروا فی ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وإن عسی أن یكون قد اقترب أجلهم فبأی حدیث بعد. یؤمنون). [17] .
فالمسیح علیه السلام بشر بالنبی الخاتم الذی تحقق شریعته الاستكمال الإنسانی، ویقوم دینه علی التوحید الذی لا یری غیر الله من یملك أی شئ، وینطلق فی دعوته من ینبوع دین الله فی فطرة الإنسان نفسه. إلی صفحة الكون الواسع العریض التی تعلیه علی الوجود. إن الإیمان بالله أمر فطری ولا یحتاج إلی معجزة لتثبته، فدعوته من الفطرة وإلی الفطرة، ویؤكد هذا المعنی أن المسیح علیه السلام أشار إلی الفطرة وهو یتحدث عن ملكوت الله، جاء فی إنجیل متی فی تلك الساعة تقدم التلامیذ إلی یسوع یسألونه: من هو الأعظم إذن فی ملكوت السماوات؟ فدعا إلیه بولد صغیر وأوقفه وسطهم وقال: الحق أقول لكم إن كنتم لا تتحولون وتصیرون مثل الأولاد الصغار. فلن تدخلوا ملكوت السماوات أبدا [18] ویقول متی هنری فی تفسیره: قوله إن لم ترجعوا وحسب الترجمة الإنجلیزیة یجب أن تتجددوا أو تتغیروا، أی: یجب تجدید ذهنكم. یجب أن یكون لكم شكل آخر وطبع آخر وأفكار أخری، سواء عن أنفسكم أو عن ملكوت السماوات، یجب أن ترجعوا إلی أنفسكم، یجب أن تصیروا مثل الأولاد. [19] .
لقد دعا المسیح علیه السلام إلی طرح الاعتقادات الباطلة التی
[ صفحه 136]
أنتجتها المسیرة وعلیها شبت الأجیال، وعلی ثقافتها سارعوا فی الأرض فسادا طمعا فی نشر شباك التهوید والتوثین علی الفطرة، وبین أن هناك الشباك ستكون عائقا أمام صاحبها عندما یبعث نبی شریعة الملكوت، ولأجل هذا فلا بد من طرح الشباك لكی تستقبل الفطرة زادها، وشباك الاعتقادات الباطلة هذه، أشار إلیها النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم. بقوله ما من مولود إلا یولد علی الفطرة. فأبواه یهودانه وینصرانه ویمجسانه. [20] .
والمسیح علیه السلام كان یمهد الطریق أمام نبی الدعوة الخاتمة.
وأقام الحجة علی أصحاب شباك التعتیم فی المسیرة الإسرائیلیة. لكی یستقبلوا وتستقبل أجیالهم الدعوة التی ما زالت فی بطن الغیب. علی أرضیة ذات شكل آخر وطبع آخر وأفكار أخری، ولكی یزیل المسیح علیه السلام شباك التعتیم، كان یكلم الشعب بطریقة ضرب الأمثال لهم لعلهم یفقهون، جاء فی إنجیل متی فتقدم إلیه التلامیذ وسألوه: لماذا تكلمهم بالأمثال؟ فأجاب: لأنه قد أعطی لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، أما أولئك فلم یعط لهم ذلك، فإن من عنده یعطی المزید فیفیض. وأما من لیس عنده ینتزع منه، لهذا السبب أكلمهم بأمثال، فهم ینظرون دون أن یبصروا ویسمعوا دون أن یسمعوا أو یفهموا، ففیهم قد تمت نبوءة أشعیا حیث یقول: سمعا تسمعون ولا تفهمون، ونظرا تنظرون ولا تبصرون، لأن قلب هذا الشعب قد صار غلیظا. وصارت آذانهم ثقیلة السمع. وأغمضوا عیونهم. لئلا یبصروا بعیونهم. ویسمعوا بآذانهم. ویفهموا بقلوبهم. ویرجعوا إلی فأشفیهم [21] یقول متی هنری:
أجابهم المسیح أنه علم بالأمثال، لأن بها تصبح الأمور أكثر وضوحا
[ صفحه 137]
وسهولة، للذین یریدون أن یتعلموا. وفی نفس الوقت تصبح أكثر صعوبة وغموضا للجهلاء بإرادتهم، إن للتلامیذ معرفة وأما الشعب فلیس لهم معرفة، لأن قلب هذا الشعب قد ثقل، ولا غرابة لمن كان قلبه هكذا إذا صارت الآذان ثقیلة السمع، ولأنهم مصرین علی أن لا یروا النور آتیا إلی العالم حینما أشرق شمس البر، بل أغلقوا نوافذهم.
لأنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور. إن النظر والسمع والفهم لازمه للرجوع والتجدید. [22] .
وفی أوامر المسیح للتلامیذ أكرزوا قائلین إنه اقترب ملكوت السماوات [23] یقول متی هنری: هذا هو رأس الموضوع، ویجب أن یتوسعوا فی شرحه، لیعرف الناس أن ملكوت المسیا [24] یجب أن یؤسس الآن حسبما جاء فی الكتب، الأمر الذی یتطلب أنهم یجب أن یتوبوا عن خطایاهم. ویتركوها لكی یؤهلوا لامتیازات هذا الملكوت، والتوبة تتفق مع تطبیق هذا التعلیم الخاص باقتراب الملكوت، لذلك یجب أن ینتظروا وأن یسمعوا عن هذا المسیا الذی طال انتظاره. أكثر مما سمعوا. یجب أن یكونوا مستعدین لقبول تعالیمه والإیمان به والخضوع له، لقد كانت المناداة بهذا كنور الصباح الذی یبشر بقرب شروق الشمس. [25] .
كانت هذه إشارات إلی رسالة النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم، یتبینها كل باحث عن الحقیقة. عند تدبره لأحداث المسیرة الإسرائیلیة وما أنتجته من فتن واختلافات، وعند تدبره لمنهج البعثة
[ صفحه 138]
الخاتمة. وما قدمه للبشریة من زاد ودواء یشفی من كل داء. وسنقدم المزید من هذه البشارات فی موضعها.
والخلاصة: كان الشطر الأول من دعوة المسیح علیه السلام، یتعلق الحجة التی تهدی إلی صراط الله، وكان الشطر الثانی من الدعوة هو تجهیز الماضی وحاضر الدعوة، لاستقبال دعوة جدیدة فی أرض جدیدة، وعلی هذا فدعوة المسیح دعوة رابطة، تهدی مسیرة إلی مسیرة، لینطلق الجنس البشری تحت سقف الامتحان والابتلاء. لینظر الله كیف یعملون.
وأصول دعوة المسیح علیه السلام فی قوله تعالی: (وإذ قال عیسی بن مریم یا بنی إسرائیل إنی رسول الله إلیكم مصدقا لما بین یدی
[ صفحه 130]
من التوراة ومبشرا برسول یأتی من بعدی اسمه أحمد). [1] .
فالذی حكاه تعالی عن عیسی علیه السلام ملخص دعوته، وقد أعلن أصل دعوته بقوله أنی رسول الله إلیكم فأشار إلی أنه لا شأن له إنه حامل رسالة من الله إلیهم، ثم بین متن ما أرسل إلیهم لأجل تبلیغه فی رسالته بقوله مصدقا لما بین یدی من التوراة ومبشرا برسول الخ.
فقوله مصدقا لما بین یدی من التوراة بیان أن دعوته لا تغایر دین التوراة. ولا تناقض شریعتها بل تصدقها ولم تنسخ من أحكامها إلا یسیرا، والنسخ بیان انتهاء أمد الحكم ولیس بإبطال. ولذا جمع علیه السلام بین تصدیق التوراة ونسخ بعض أحكامها فیما حكاه الله تعالی من قوله (مصدقا لما بین یدی من التوراة ولأحل لكم بعض الذی حرم علیكم)، [2] ولم یبین لهم إلا بعض ما یختلفون فیه، كما فی قوله (قد جئتكم بالحكمة ولأبین لكم بعض الذی تختلفون فیه فاتقوا الله وأطیعون). [3] .
وبالجملة: فالمسیح یحمل رسالة من الله إلی بنی إسرائیل، وهذه الرسالة لا تناقض التوراة التی أنزلها الله تعالی علی موسی علیه السلام، بل هو مصدقا لما علمه الله من التوراة النازلة علی موسی، وأنه علیه السلام جاء لنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة علیهم، كما فی قوله تعالی: (ولأحل لكم بعض الذی حرم علیكم). [4] وما حرم علیهم أشار إلیه قوله تعالی: (فبظلم من الذین هادوا حرمنا علیهم طیبات أحلت لهم). [5] .
[ صفحه 131]
والأناجیل الحاضرة أشارت إلی أن دعوة المسیح موجهة إلی بنی إسرائیل دون غیرهم. جاء فی إنجیل متی قول المسیح لم أرسل إلا إلی خراف بیت إسرائیل الضالة [6] وأشارت إلی أن الدعوة لا تغایر دین التوراة ولا تناقض شریعتها بل تصدقها. وإنها تنسخ بعض الأحكام التی انتهی أمد حكمها. جاء فی إنجیل متی قول المسیح لا تظنوا أنی جئت لألغی الشریعة أو الأنبیاء. ما جنت لألغی بل لأكمل [7] ویقول متی هنری فی تفسیره: إن المسیح فی كل النواحی خضع للناموس وأكمله.
أكرم والدیه وقدس السبت وصلی وأعطی صدقه. وأطاع طاعة كاملة. [8] .
وكان المسیح علیه السلام یحمل المعجزات التی تؤید صدق دعوته. ومنها النفخ فی الطین فیكون طیرا بإذن الله. وإبراء الأكمه والأبرص وإحیاء الموتی بإذن الله. وینبأهم بما یأكلون وما یدخرون فی بیوتهم. وكان علیه السلام یحمل معجزة العلم بالكتاب والحكمة. وهو قوله تعالی: (ویعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجیل) [9] وما جاء به المسیح علیه السلام. أصاب علماء بنی إسرائیل بالدهشة. وعلی الرغم من هذا حاولوا قتله. جاء فی إنجیل یوحنا صعد یسوع إلی الهیكل وبدأ یعلم الناس. فدهش الیهود وتساءلوا: كیف یعرف هذا الكتاب وهو لم یتعلم. فأجابهم یسوع: لیس تعلیمی من عندی بل من عند الذی أرسلنی. ومن أراد أن یعمل بمشیئة الله یعرف ما إذا كان تعلیمی من عند الله أو أننی أتكلم من عندی. من یتكلم من عنده یطلب المجد لنفسه.
أما الذی یطلب المجد لمن أرسله فهو صادق لا إثم فیه. أما أعطاكم
[ صفحه 132]
موسی الشریعة ولكن ما أحد منكم یعمل بالشریعة. لماذا تسعون إلی قتلی؟. [10] وجاء فی إنجیل متی بهت الجمیع من تعالیمه لأنه یعلمهم كمن له سلطان. [11] .
كان هذا هو الشطر الأول من دعوته علیه السلام، أما الشطر الثانی فهو قوله ومبشرا برسول یأتی من بعدی اسمه أحمد ومن المعلوم أن البشری هی الخبر الذی یسر المبشر ویفرحه. ولا یكون إلا بشئ من الخیر یوافیه ویعود إلیه، والخیر المترقب من بعثة النبی أحمد ودعوته. هو انفتاح باب من الرحمة الإلهیة علی الناس فیه سعادة دنیاهم وعقباهم، من عقیدة حقة أو عمل صالح أو كلیهما.
وقال صاحب المیزان: ویعود معنی كلامه إنی رسول الله إلیكم مصدقا لما بین یدی من التوراة ومبشرا.. الآیة. إلی: أنی رسول الله إلیكم أدعو إلی شریعة التوراة ومنهاجها - ولأحل لكم بعض الذی حرم علیكم - وهی شریعة سیكملها الله ببعث نبی یأتی من بعدی اسمه أحمد، وهو كذلك. فإمعان التأمل فی المعارف الإلهیة التی یدعو إلیها الإسلام، یعطی أنها أدق مما فی غیره من الشرائع السماویة السابقة، وخاصة ما یندب إلیه من التوحید. الذی هو أصل الأصول الذی یبتنی علیه كل حكم ویعود إلیه كل من المعارف الحقیقیة، وكذا الشرائع والقوانین العملیة التی لم تدع شیئا مما دق وجل من أعمال الإنسان الفردیة والاجتماعیة. إلا عدلته وحدت حدوده وقررته علی أساس التوحید ووجهته إلی غرض السعادة، وإلی ذلك الإشارة بقوله تعالی: (الذین یتبعون النبی الأمی الذی یجدونه مكتوبا عندهم فی التوراة والإنجیل یأمرهم بالمعروف وینهاهم عن المنكر ویحل لهم الطیبات
[ صفحه 133]
ویحرم الخبائث ویضع عنهم إصرهم والأغلال التی كانت علیهم). [12] .
وقوله اسمه أحمد دلالة السیاق علی تعبیر عیسی علیه السلام عنه صلی الله علیه وآله وسلم بأحمد، وعلی كونه اسما له یعرف به عند الناس، كما كان یسمی بمحمد ظاهرة لا سترة علیها، ویدل علیه قوله حسان:
صلی الإله ومن یحفف بعرشه
والطیبون علی المبارك أحمد
ومن أشعار أبی طالب قوله:
وقولوا لأحمد أنت أمرء
خلوف اللسان ضعیف السبب
ألا إن أحمد قد جاءهم
بحق ولم یأتهم بالكذب
وقوله مخاطبا للعباس وحمزة وجعفر وعلی بنصر النبی صلی الله علیه وآله وسلم:
كونوا فدی لكم أمی وما ولدت
فی نصر أحمد دون الناس أتراسا
ومن شعره فیه صلی الله علیه وآله وسلم وقد سماه باسمه الآخر محمد:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا
نبیا كموسی خط فی أول الكتب
ویستفاد من البیت أنهم عثروا علی وجود البشارة به صلی الله علیه وآله وسلم. فی الكتب السماویة التی كانت عند أهل الكتاب یومئذ ذاك، ویؤیده أیضا إیمان جماعة من أهل الكتاب من الیهود والنصاری وفیهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام وغیره، وقد كانوا یسمعون هذه الآیات القرآنیة التی تذكر البشارة به صلی الله علیه وآله وسلم،
[ صفحه 134]
وذكره فی التوراة والإنجیل. فتلقوه بالقبول ولم یكذبوه. ولا أظهروا فیه شیئا من الشك والتردید [13] وخلو الأناجیل الدائرة الیوم من بشارات عیسی علیه السلام بما فیها من الصراحة. فالقرآن الكریم فی غنی عن تصدیقها. لأنه الكتاب الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه.
وهو المعجزة الباقیة، والبشارات بنبی الإسلام (ص) لا یخلو الكتاب المقدس منها، وبعض هذه البشارات حرفت وغیرت إما بتغییر لفظ أو محل. وإما بزیادة أو نقصان. أو غیر ذلك.
ولقد ذكر العهد القدیم بشارات إذا تدبرها الباحث وجد أنها لا تستقیم إلا مع البعثة الخاتمة، وسنلقی ضوءا علی هذه البشارات فی موضعها، أما العهد الجدید فلقد بشر بالنبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم فی مواضع، وبشر بشریعته تحت عنوان اقترب ملكوت السماوات، وكان المسیح علیه السلام یقول لتلامیذه أكرزوا قائلین: إنه اقترب ملكوت السماوات، [14] ومعنی الملكوت الذی أشار إلیه المسیح:
السلطنة والحكم، ویشیر إلیه قول الله تعالی لرسوله الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم (قل من بیده ملكوت كل شئ وهو یجیر ولا یجار علیه إن كنتم تعلمون. سیقولون لله. قل فأنی تسحرون. بل أتیناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم علی بعض سبحان الله عما یصفون)، [15] وقال المفسرون: الملكوت هو الملك. بمعنی: السلطنة والحكم، وقد فسر تعالی ملكوته بقوله: (إنما أمره إذا أراد شیئا أن یقول له كن فیكون. فسبحانه الذی بیده ملكوت كل شئ)، [16] فكون ملكوت كل شئ بیده
[ صفحه 135]
أن ملكه تعالی محیط بكل شئ ونفوذ أمره ومضی حكمه ثابت علی كل شئ، والنظر فی ملكوت الأشیاء یهدی الإنسان إلی التوحید هدایة قطعیة، قال تعالی: (أولم ینظروا فی ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وإن عسی أن یكون قد اقترب أجلهم فبأی حدیث بعد. یؤمنون). [17] .
فالمسیح علیه السلام بشر بالنبی الخاتم الذی تحقق شریعته الاستكمال الإنسانی، ویقوم دینه علی التوحید الذی لا یری غیر الله من یملك أی شئ، وینطلق فی دعوته من ینبوع دین الله فی فطرة الإنسان نفسه. إلی صفحة الكون الواسع العریض التی تعلیه علی الوجود. إن الإیمان بالله أمر فطری ولا یحتاج إلی معجزة لتثبته، فدعوته من الفطرة وإلی الفطرة، ویؤكد هذا المعنی أن المسیح علیه السلام أشار إلی الفطرة وهو یتحدث عن ملكوت الله، جاء فی إنجیل متی فی تلك الساعة تقدم التلامیذ إلی یسوع یسألونه: من هو الأعظم إذن فی ملكوت السماوات؟ فدعا إلیه بولد صغیر وأوقفه وسطهم وقال: الحق أقول لكم إن كنتم لا تتحولون وتصیرون مثل الأولاد الصغار. فلن تدخلوا ملكوت السماوات أبدا [18] ویقول متی هنری فی تفسیره: قوله إن لم ترجعوا وحسب الترجمة الإنجلیزیة یجب أن تتجددوا أو تتغیروا، أی: یجب تجدید ذهنكم. یجب أن یكون لكم شكل آخر وطبع آخر وأفكار أخری، سواء عن أنفسكم أو عن ملكوت السماوات، یجب أن ترجعوا إلی أنفسكم، یجب أن تصیروا مثل الأولاد. [19] .
لقد دعا المسیح علیه السلام إلی طرح الاعتقادات الباطلة التی
[ صفحه 136]
أنتجتها المسیرة وعلیها شبت الأجیال، وعلی ثقافتها سارعوا فی الأرض فسادا طمعا فی نشر شباك التهوید والتوثین علی الفطرة، وبین أن هناك الشباك ستكون عائقا أمام صاحبها عندما یبعث نبی شریعة الملكوت، ولأجل هذا فلا بد من طرح الشباك لكی تستقبل الفطرة زادها، وشباك الاعتقادات الباطلة هذه، أشار إلیها النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم. بقوله ما من مولود إلا یولد علی الفطرة. فأبواه یهودانه وینصرانه ویمجسانه. [20] .
والمسیح علیه السلام كان یمهد الطریق أمام نبی الدعوة الخاتمة.
وأقام الحجة علی أصحاب شباك التعتیم فی المسیرة الإسرائیلیة. لكی یستقبلوا وتستقبل أجیالهم الدعوة التی ما زالت فی بطن الغیب. علی أرضیة ذات شكل آخر وطبع آخر وأفكار أخری، ولكی یزیل المسیح علیه السلام شباك التعتیم، كان یكلم الشعب بطریقة ضرب الأمثال لهم لعلهم یفقهون، جاء فی إنجیل متی فتقدم إلیه التلامیذ وسألوه: لماذا تكلمهم بالأمثال؟ فأجاب: لأنه قد أعطی لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، أما أولئك فلم یعط لهم ذلك، فإن من عنده یعطی المزید فیفیض. وأما من لیس عنده ینتزع منه، لهذا السبب أكلمهم بأمثال، فهم ینظرون دون أن یبصروا ویسمعوا دون أن یسمعوا أو یفهموا، ففیهم قد تمت نبوءة أشعیا حیث یقول: سمعا تسمعون ولا تفهمون، ونظرا تنظرون ولا تبصرون، لأن قلب هذا الشعب قد صار غلیظا. وصارت آذانهم ثقیلة السمع. وأغمضوا عیونهم. لئلا یبصروا بعیونهم. ویسمعوا بآذانهم. ویفهموا بقلوبهم. ویرجعوا إلی فأشفیهم [21] یقول متی هنری:
أجابهم المسیح أنه علم بالأمثال، لأن بها تصبح الأمور أكثر وضوحا
[ صفحه 137]
وسهولة، للذین یریدون أن یتعلموا. وفی نفس الوقت تصبح أكثر صعوبة وغموضا للجهلاء بإرادتهم، إن للتلامیذ معرفة وأما الشعب فلیس لهم معرفة، لأن قلب هذا الشعب قد ثقل، ولا غرابة لمن كان قلبه هكذا إذا صارت الآذان ثقیلة السمع، ولأنهم مصرین علی أن لا یروا النور آتیا إلی العالم حینما أشرق شمس البر، بل أغلقوا نوافذهم.
لأنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور. إن النظر والسمع والفهم لازمه للرجوع والتجدید. [22] .
وفی أوامر المسیح للتلامیذ أكرزوا قائلین إنه اقترب ملكوت السماوات [23] یقول متی هنری: هذا هو رأس الموضوع، ویجب أن یتوسعوا فی شرحه، لیعرف الناس أن ملكوت المسیا [24] یجب أن یؤسس الآن حسبما جاء فی الكتب، الأمر الذی یتطلب أنهم یجب أن یتوبوا عن خطایاهم. ویتركوها لكی یؤهلوا لامتیازات هذا الملكوت، والتوبة تتفق مع تطبیق هذا التعلیم الخاص باقتراب الملكوت، لذلك یجب أن ینتظروا وأن یسمعوا عن هذا المسیا الذی طال انتظاره. أكثر مما سمعوا. یجب أن یكونوا مستعدین لقبول تعالیمه والإیمان به والخضوع له، لقد كانت المناداة بهذا كنور الصباح الذی یبشر بقرب شروق الشمس. [25] .
كانت هذه إشارات إلی رسالة النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم، یتبینها كل باحث عن الحقیقة. عند تدبره لأحداث المسیرة الإسرائیلیة وما أنتجته من فتن واختلافات، وعند تدبره لمنهج البعثة
[ صفحه 138]
الخاتمة. وما قدمه للبشریة من زاد ودواء یشفی من كل داء. وسنقدم المزید من هذه البشارات فی موضعها.
والخلاصة: كان الشطر الأول من دعوة المسیح علیه السلام، یتعلق الحجة التی تهدی إلی صراط الله، وكان الشطر الثانی من الدعوة هو تجهیز الماضی وحاضر الدعوة، لاستقبال دعوة جدیدة فی أرض جدیدة، وعلی هذا فدعوة المسیح دعوة رابطة، تهدی مسیرة إلی مسیرة، لینطلق الجنس البشری تحت سقف الامتحان والابتلاء. لینظر الله كیف یعملون.
[1] سورة الصف آية 6.
[2] سورة آل عمران آية 50.
[3] سورة الزخرف آية 63.
[4] سورة آل عمران آية 50.
[5] سورة النساء آية 160.
[6] متي إصحاح 15 / 25.
[7] المصدر السابق 5 / 17.
[8] تفسير متي هنري ص 142 / 1.
[9] سورة آل عمران آية 48.
[10] يوحنا 7 / 14 - 20.
[11] متي 7 / 29.
[12] سورة الأعراف آية 157.
[13] الميزان 253 / 19.
[14] متي 10 / 7.
[15] سورة المؤمنون آية 88 - 91.
[16] سورة يس آية 83.
[17] سورة الأعراف آية 185.
[18] متي 18 / 1 - 3.
[19] متي هنري 106 / 2.
[20] رواه الإمام مسلم ك القدر بكل مولود يولد علي الفطرة (الصحيح 52 / 8).
[21] متي 13 / 10 - 15.
[22] متي هنري 433 / 1 وما بعدها.
[23] متي 10 / 7.
[24] المسيا / إشارة إلي نبي الإسلام. راجع كتاب: المسيا المنتظر نبي الإسلام / د. أحمد حجازي السقا.
[25] متي هنري 323 / 1.